قصيدة رحلة النور

إنْ غاَبت العَيْنانِ عن أم القرى

في الرُّوحِ نشوةُ بيتِها وحِرائِها

وزُلالِ زَمْزمِها.. وعطرِ مُقامِها

وحَطِيمِها.. وكُدَيِّها.. وكَدَائِها

وعبيرِ مولدِ سيدي.. وشبابِه

فيها.. ووقعِ خطاهُ في بطحائِها

هي قبلةُ الدنيا.. وأطهرُ بقعةٍ

في الكون.. من يسمو على عليائِها؟!

ما هاجر المُختارُ إلا حينمَا

زادت فُلول الشـركِ في إيذائِها

أما المدينةُ.. فالفؤادُ مُتَيَّـمٌ

مُتَشَبِّثٌ بِسنائِها.. وهَنائِها

ويهزني ذاك المقامُ.. وترتقي

روحي إلى أسمَى فنونِ صَفائِها

لو طالَ عنها البعدُ.. فاضتْ أدمُعي

شوقًا لِرؤيتِها.. وَسِحرِ بهائِها

أزِفَ الرحيلُ إلى المدينة.. والهوى

سَامٍ.. وقلبي هَائمٌ لِلقائِها

ودليلُ راحِلَتي يُهَيئ رَحْلَها

مُتفقدًا لِحذائِها وسقائِها

كالرِّيح في طي الفيَافي.. دونمَا

حِسٍّ لحافرِها.. وصوتِ رُغائِها

بثلاثِ ساعاتٍ عَبَرْتُ مسافةً

كم كان يَلقَى المرءُ من وَعْثَائِها!

أسبوعُ مَشـي مُفعَمٌ بمخاطرٍ

يتجرع الإنسانُ مُرَّ عَنائِها

مِن قاطعي طرُق.. وفقرٍ مُدقِع

وسِباعِ فتكٍ مُرعبٍ وعُوائِها

كم سخَّر الباري صنوف منافع

للعالمين.. لِينعَمُوا بِرَخَائِها

هاجت بيَ الذكرَى لقصةِ هِجرةٍ

ولِهَمْهَمَاتِ الأُنسِ في قَصوائِها

والمصطفى ماضٍ برفقةِ صاحبٍ

غالٍ.. يخاف عليه مِن أعدائِها

ناداه: لا تحزنْ.. فربُّكَ ثالث

وَمَضَوْا بنورِ اللهِ في بَيْدائِها

هذا سُراقةُ ذاهِل.. وهنا ترى

في أم مِعبد مُعجزاتِ خبَائِها

وهنالِكَ الأنصارُ ينتظرونَه

مثلَ انتظار النَّفْسِ يومَ شِفائِها

صَمَدُوا لحرّاتِ المدينة.. ألهبَتْ

أقدامَهم.. ومَشَوا على رَمْضَائِها

يترقَّبون الوصلَ منذُ تواثقوا

بِمنًى.. وحسن العهدِ من نُقَبائِها

مدَّ النبيُّ يدًا لأصدقِ بيعةٍ

بهرُوا بني الدنيا بصدقِ وفائِها

يا أسعدَ اللحظات.. يا يومَ المنى

لمَّا أناخَ المصطفى بقُبائِها

فإذا المدينةُ باقةٌ فواحةٌ

بالحبِّ والتَّرحابِ من أبنائِها

وازدانَت الطرقاتُ والأرواحُ في

طربٍ.. تُرَدِّدُ رائعاتِ حِدائِها

كلٌّ يتوقُ لأن يَـحلَّ بداره ضيفًا

فكان يرُدُّ باستعفَائِها

يُرضِي بِبَسمَتِهِ الجميلةِ أنفسًا

قامت تُفَدِّيهِ على أرجائِها

والناقة القصواءُ.. يا لَسـرورها

بِأبَرِّ مخلوقٍ على غَبرائِها

دَعْهَا تسيرُ.. فإنها مأمُورة

وستهتدي من نفسِها لفِنائِها

فهناك مسجدُه الشـريفُ.. بناه

من لَبِنٍ.. وأما الفرشُ من حَصْبائِها

لكنَّهُ التاريخُ سطَّر مجدَه

منه.. ورفرفَت المُنى بِلِوائِها

وإذا بِشَمس الحقِّ من ساحاته

تتطلعُ الدنيا لحُسنِ ضِيائِها

يا للمعاني السامياتِ.. ويا لَها

من ذكرياتٍ تزدَهي بسمائِها

فهنا شذى بيتِ الحبيب.. ومسجِد

ترنُو إليه الأرضُ من أنحائِها

وهنا الحنينُ لجذع نخلته التي

لفراقه جَهَشَتْ بصوتِ بكائِها

وسكونُ روضتِهِ.. وهمسُ دعائِه

ولقاؤُه جبريلَ في بطحائِها

وتَفَجُّرٌ للماءِ بين أصابعٍ

للمصطفى المختارِ في زَورَائِها

وهُنَا عواليها.. ومِسكُ عَقيقِها

والثُّلةُ النُّجَبَاءُ من شُهدائِها

فهناك في أُحُدِ المودّةِ أنفسٌ

جادت لنصـرِ نبيها بِدِمائِها

ولبَيْرُحَاءَ هوًى.. وبئرِ أريسها

والمصطفى ولِشـربهِ من مائِها

وسقِيفة حظيَتْ ببيعةِ أمةٍ

لمقدّم الأصحاب من خُلفائِها

ومعالم الحُجراتِ.. والبيتِ الذي

يروي فيوضَ الحب عن زهرائِها

وهنا البقيعُ.. يضُمُّ خيرَ رجالِها

طهرًا وإيمانًا.. وخيرَ نِسَائِها

بُشـْرَى لمَن كانتْ مَنِيتُه بها

ليكونَ في السُّعدَاء مِن شُفعائِها

والعارفين بقدرِها.. وبقدرِ مَن

فيها.. ومَن صَبروا على لَأْوائِها

ستظلُّ شاهِدةً لكل موفَّقٍ

لبدائع الإخلاصِ من رؤسائِها

واليومَ يا لجَمَالِها.. وجَلالِها

وهنائها.. وسنائها.. وبهائِها

من بعدِ أن جاء الإمامُ مُوَحِّدًا

بركائزٍ.. كم جَدَّ في إرسائِها

ضَمَّ الجزيرةَ من شَتاتٍ.. وازدَهى

نورُ المودةِ والرضى بإخائِها

عنوانُه التوحيدُ في صبرٍ.. وفي

ثقةٍ بنصْـرَتِهِ على أعدائِها

في ظل مملكةِ السلام وسَيرِها

بسياسةٍ تسمو على نُظَرائِها

عدلٌ.. وإحسانٌ.. وَحُسنُ تعاملٍ

بقيادة الأفذاذِ من نُجَبائِها

سبَّاقة للمكرمات.. فأينما

يممتَ.. سوف ترى ندَى آلائِها

في خادمِ الحرمين بغيتُها لمَا

ترنُو له من أمنِها وبِنائِها

ووليُّ عهدِ الخير حاملُ رؤيةٍ

بهر الأنامَ بعمقِها وذكائِها

شهمٌ.. ذكِيٌّ.. ألمَعِي.. قَائدٌ

مِن نادرِ الزعماءِ.. واستِثنائِها

في دولةٍ.. هديُ الشـريعةِ نورُها

وبهِ معالمُ أمنِها ورخائِها

الدولة العظمَى.. فكلُّ سياسةٍ

لا بد أن تأوي إلى آرائِها

تسعى لآفاق الحضارة والعلا

في الفكر.. في الإبهار.. في فقهائِها

وإذا تعَقَّدَت المسائل.. فالورَى

يرضَون بالتأصيل في إفتائِها

تتألَّقُ الأرواحُ في الدنيا على

ترتيلةِ القرآنِ من قُرَّائِها

مَن كان بنَّاءَ المقاصدِ. صادقًا

في حبِّها.. يحظَى بِـحُسـنِ وَلائِها

عنوانُها الإبداعُ.. سرُّ جَمالِها

ويقينُها باللهِ حِصنُ بَقَائِها

يتفيَّأ الحَرَمَان ظِلَّ عطائِهَا

ووفائِهَا.. وأدائِهَا.. وسَخَائِهَا